.... وتستمر الحياة .....
مر شهران على زيارة "زمردة" لمدينة النجوم، رغم أنها
ذكرى سيئة إلا أنها انتهت بمحاولة، فأكثر شيء تكرهه أن
تكتفي بالمشاهدة.
عاقبتها جدتها لمدة أسبوعين قبل أن تعفو عنها بعد أن
توسطت السيدة "سليمة"، وأخذت عهدًا على زمردة ألا تعصي
جدتها مجددًا.
لم يحصل الكثير في هذين الشهرين. عادت زمردة
لمساعدة جدتها في تربية البط وبيعه.
كانت الحياة بطيئة والروتين هو سيد الموقف.
وعاشوا بهدوء إلا من تلك السيارات الغريبة التي بدأت
تزور القرية منذ شهر. أول مرة رأتهم "روز" كانت في طريقها
للمزرعة لجلب بعض الخضروات.
كانت سيارات )جيب( سوداء تحوم حول القرية لتتجه
بعدها نحو الجبال.
وتكرر الحادث بعد أسبوعين، حيث رأتهم يحومون مرة
أخرى حول القرية، وكانت تلك المرة أربع سيارات.
وبعده بأيام أتى طفل يصيح: لقد أتوا.. لقد أتوا.
تجمع رجال القرية، وحمل بعضهم العصي الثقيلة
واتجهوا ناحيتهم.
كانت النساء خائفات فتبع بعضهن الرجال، ومن بينهن
زمردة.
كانوا يقفون جميعهم تحت الجبل.
وهذه المرة كانت معهم آلة برتقالية اللون في رأسها مثل
الإبرة الطويلة
يدخلونها في باطن الأرض وكأنهم يقيسون عمقها.
وبعد أن اجتمعوا برجال القرية وتكلموا معهم، بدأت
السيارات في الانصراف، ومعهم آلتهم أيضا.
وبطريق العودة مرت السيارات بجوار النساء اللائي
قطعن منتصف المسافة.
كانت إحدى السيارات تسير ببطء، وزجاجها مفتوح،
وعندها لمحت زمردة رجلاً مستندًا بذراعه على النافذة. كان
تعبير وجهه غريبًا جدا.. مزيج من ألم.. وتعب.
بدا وجهه مألوفا قبل أن تتذكر فجأة أنه ذلك الشاب
الطويل الذي رأته بمدينة النجوم.
وبعد أن أبصرته هرولتْ وراءه لتعرف ماذا كانوا
يريدون،والسبب الوحيد الذي قاله شخص لرجال القرية بينما
البقية لم يخرجوا من سياراتهم.
نأسف لإزعاجكم، الآن سنذهب.
وعندما ألحوا، أجابهم أحد العاملين: نحن بمهمة سرية لا
نستطيع البوح بها، نحن نفعل ما نؤمر به، إن أردتم اسألوا
السيد، وأشار إليه في سيارته، ولكن قبل أن يصلوا إليه تحركت
السيارة بعيدًا.
بدأ الذعر يدبّ والإشاعات تنتشر بشكل فظيع، وظلّ
الناس يتساءلون ليل نهار، وأصبحوا لا همَّ لهم في جلساتهم
وأسمارهم إلا الحديث عن هؤلاء؛ من هم؟ وماذا يريدون؟
وأخذتْ امرأة مجنونة في القرية تدعي معرفة الغيب
تروّج لسلسلة من الإشاعات تقول: إنهم ما جاءوا هنا إلا لدمار
القرية وأن مصيرها الهلاك، وأنهم سيصبحون أسياد بالقرية
ويحكمونها وسنصير نحن سكانها مجرد عبيد.
دعا العمدة في ليلة قمرية سكان القرية جميعهم وطمأنهم
بأن هؤلاء ما هم إلا علماء في مهمة استكشافية عن الارض
وطبيعتها، وينبغي ألا يعترض أحد الطريق عليهم، قال هذا
بصوت هادئ مطمئن كالعادة.
وكانت زمردة تنظر إليه بكل فخر وعيناها تتلألأن، فهو
بمثابة الوالد لها، وهو والد أحب شخص لديها بعد عائلتها.
شعرت بالحنين فجأة، فهو مسافر للدراسة منذ أربع
سنين، ابتعدت عن الحشود، وذهبت للمرج القابع خلف بيت
العمدة، فكم لعبت في هذا المرج وهي صغيره مع زيد ابن
العمدة. ثم جلست تراقب النجوم الكثيرة التي تملأ الفضاء، كانت
تلك هواية زمردة المفضلة؛ فهي لا تملّ من مراقبة النجوم،
ولها معها حكايات وأسرار.
لا تعلم كم من الوقت مرّ حتى أتتْ صديقتها "روز"
وقطعت عليها خلوتها:
ماذا تفعلين؟ قالتها وهي تجلس بجوارها.
- أراقب النجوم
- إنها جميلة! وبعد صمت ثوانٍ
أذكر جيدًا عندما كنتِ صغيرة، كنت تعشقين النجوم
وتدعين أنها صديقتك.
نظرت لها: "وما زلت للآن أعشقها".
أرسلت بصرها إلى النجوم وعادت بنظرتها نحو زمردة:
"هل تعلمين كم تبعد عنا؟"
- آلاف السنين الضوئية.
- إنها مسافة بعيدة جدًا.
ردت: "إذن"
فقالت: "إذن، مهما كانت جميلة ومغرية، فلن نصل إليها
يوماً مهما أحببناها، كل ما نستطيع فعله هو مراقبتها فقط من
بعيد. وأردفتْ بسخرية: وهل رأيت يومًا نجما بالأرض؟!
- النجوم تسقط
- عندما تموت
قطبت زمردة حاجبها مصطنعة الغضب: "هل لك أن
تتخلّي عن هذا الإحباط". عم السكوت من جديد، وكانت زمردة
تستمتع به قبل أن تقاطعها "روز" مجددًا.
- أي نجم يعجبك؟
- مدت يدها وأشارت إلى نجم لامع كبير، وقالت: "ذلك
النجم!"
- لقد اخترت أكبرها.
- أعرف ولكنه هو الوحيد الذي أعرفه منذ صغري.
وبعد تأمل قالت روز: إنه يعجبني أيضًا.
مدت "زمردة" يدها تجاه النجم، وأشارت بالسبابة
والإبهام، وفرّقتْ بينهما حتى أصبح النجم في وسطهما، ثمّ
ضيقت المسافة رويدًا، فبدتْ وكأنها ممسكة بذلك النجم وقالت
بصبيانية: لقد أمسكت به، وأضافتْ بنبرة محذرة: إنه لي.